أخبرني عن قصته بنفسه، وهو عندي ثقة ثقة ثبت. ولذلك فهي عندي صحيحة ذهبية سندا ومتنا، وهي كذلك عند من يثق بي إليكم قصتي في التجارة مع الله.
بداية القصة
كنت فتى في السادسة عشر ، وكنت قد قسمت معيشتي بين أمي وعمتي؛ أما أمي فقد كنت أتدلل معها حين أفطر، فأطلب كل يوم القريصات بالسكر.
وأما عمتي فأتدلل معها حين أتعشى بطلب المصانف؛ وهو خبز يلف فيه اللحم والبصل.
يقول صاحبنا: وكنت حين آكل هذا أو ذاك أعقد الصفقات الرابحة مع الله؛ فأعدِّدُ النوايا جهد استطاعتي:
- نيتي أن تفرح أمي
- نيتي أن يرى ربي أثر نعمته عليّ
- نيتي أن أتقوى على طاعة الله
- نيتي أن أكون سببا في رزق يسوقه الله لكل من شارك في هذه اللقمة؛ من بائع دقيق وسكر وسمن وملح ومُكارٍ ينقل البضائع، ومن لا أحصي ممن سخرهم الرحمن لأطعم هذا الطعام
- نيتي أن تسمع مني أمي وعمتي كلمات ثناء ومديح وشكر؛ وهي كلها قول خير وقول حُسْن
صفقات أخرى في تجارة النوايا
يقول صاحبنا وكنت إذا خرجتُ من البيت ربما اشتغلت بمراجعة سورة البقرة، وربما عقدتُ صفقات أخرى في تجارة النوايا. فربما مررت على بيت عَدَت عليه عوادي الزمن؛ فنويت أنني حين أكبر سأعين أهله لينفضوا عن كواهلهم المتعبة لأواء الحياة وضنكها. وربما لاحت لي من بعيد خيمة العجوز (محيريقة) فجددت النية بأن أهبها – حين أكبر – خمسين جونية طحين، وخمسين جونية أرز، وخمسين جونية سكر.
من قصة اكتسب صفة من التجارة مع الله
إن هذا السلوك القلبي – يقول صاحبنا – اكتسبته من قصة بلغتني عن الشيخ أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي – رحمهما الله – وذلك أنه كان جليسا للمحتسب صالح بن علي الحارثي، فشهده يبعث صفوة أبنائه لاستقبال عدد من الطغاة الفجار، فقال له:
ما نيتك فيما فعلت؟ فطفق الشيخ المحتسب يعدد نواياه الخيِّرة، فلما فرغ قال له الشيخ الخليلي:
ما كان في قلبي شك في أنك نويت الخير، ولكني سألتك لتزداد نواياك، ولأكون شريكا لك فيها كلها.
هذه القصص ذكرني بها درس لأخينا المفضال أبي الحسن الهنائي – باركه الرحمن وذريته – حيث ختم درس المصابرة بأبيات المحقق سعيد بن خلفان الخليلي حيث يقول:
ونيتي كل ما يرضي اﻹله على
أتم وجه وفي العهد والذمم
أن أملأ الأرض عدلا واللسان ثنا
والقلب شكرا لذي اﻵلاء والنعم
مستعملا كل عضو كل آونة
فيما لتوحيده أخرجت من عدم
سعيد بن خلفان الخليلي
وقد خمسها أبو الحسن الهنائي فقال:
وما خلقت لغير الله ممتثلا
وما رجوت بغير الحق لي مثلا
والله يجزي بدار الخلد من عملا
(ونيتي كل ما يرضي اﻹله على
أتم وجه وفي العهد والذمم)
وأن أؤم بعون الله صالحنا
نحو الكتاب وعين الله ترقبنا
عسى يمنَّ على نفسي بغير عنا
(أن أملأ الأرض عدلا واللسان ثنا
والقلب شكرا لذي اﻵلاء والنعم)
ولو قطعتُ إليه ظهر صافنةٍ
ألقى السهام بنفس غير شاطنةٍ
بالحق قائمةٍ ليست بخائنةٍ
(مستعملا كل عضو كل آونةٍ
فيما لتوحيده أُخرجتُ من عدم)
أبو الحسن الهنائي
في خاتمة قصة التجارة مع الله
في الخاتمة أقول إن تجارة النوايا تجارة لن تبور؛ فالعمل الواحد يستطيع المؤمن أن ينوي به عشرات النوايا الصالحة، وأكثر من ذلك أن المؤمن ينوي أعمالا لا يُجريها الله على يدي عبده ذاك، فيجدها في صفحة أعماله يوم القيامة.
ولذلك يردد المؤمن في التوجيه : (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) فعلينا أن نترقى في مدارج كمالات هذه التجارة، وعلينا أن نرقي معها أطفالنا وأهلنا ومريدينا.
عهدا سأقلق مضجعي إلا أرى
كل الخلائق عابدين الله
عهدا سأبقى ما حييت مجاهدا
سبل الغواية فاضحا دعواها
حتى ترى نفسي الهناء بصارم
عضب يمزع في الفضا أشلاها
ويحيلني طعم الجوارح في السما
وترى سباع الأرض فيّ مناها
ولتبك أمي ولتُبَكِّ غادة
إن تضحك الحوراء عند لقاها
وكتبه المفتقر إلى رضوان ربه الجليل
عبدالله بن عامر العيسري في جامع الجليل بالمعبيلة
ليلة الجمعة الغراء 26 من ربيع الأنور عام 1439.